كارثة سيول الجزيرة أبا.. من الخلل إلى الحل

بقلم: عروة الصادق
مقدمة:كارثة
تعتبر الجزيرة أبا، بواقعها الجغرافي وتاريخها العريق، انموذجًا بارزًا للتخطيط العمراني التقليدي، فقد تم تأسيسها على أسس علمية تراعي طبيعة المكان وظروف البيئة، مما أتاح لها الصمود أمام تحديات الزمن والتغيرات المناخية، وقد شهدت الجزيرة أبا مؤخراً كارثة بيئية وإنسانية نتيجة الأمطار الغزيرة والسيول التي اجتاحتها .. فتسببت في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، تطرح تساؤلات عديدة حول أسباب وقوعها، وكيفية التعامل مع مثل هذه الأزمات في المستقبل، وتعد كارثة غرق أجزاء من الجزيرة أبا نتيجة حتمية لتراكم الأخطاء والتخطيط غير المدروس، فبعد أن كانت الجزيرة انموذجًا للتخطيط العمراني التقليدي، تحولت إلى مثال صارخ في الإهمال والتدخلات العشوائية التي أدت إلى كارثة بيئية وإنسانية، لذلك فإن أبا بواقعها الجغرافي وتاريخها العريق، تعد انموذجًا بارزًا للتخطيط العمراني التقليدي، ومع ذلك فقد عانت في السنوات الأخيرة من آثار التغيرات المناخية والتخطيط العمراني غير المدروس، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الفيضانات والتصريف، في هذا المقال، سأتناول التحديات التي تواجه الجزيرة، وأسلط الضوء على أهمية التخطيط المستقبلي والوقاية من آثار الخريف، فأبا بجمالها الطبيعي وتراثها العريق، جوهرة من جواهر السودان، ومع ذلك فإنها تواجه تحديات بيئية كبيرة، أبرزها آثار الخريف المتكررة التي تسبب خسائر فادحة في الممتلكات والبنية التحتية، وللتغلب على هذه التحديات، لا بد من اتخاذ إجراءات جذرية، أبرزها التوعية بأهمية الحفاظ على البيئة، وستتعرض أبا، شأنها شأن العديد من المناطق النيلية، لتأثيرات متزايدة من الأمطار الغزيرة والفيضانات والتغيرات المناخية وعوامل التجريف والتخريب والتلويث البشري، هذه الآثار لا تقتصر على الأضرار المادية فحسب، بل تمتد لتشمل الخسائر في الأرواح وتعطيل الحياة اليومية، وللتغلب على هذه التحديات، لا بد من تضافر الجهود وتعاون جميع الأطراف المعنية، الحكومية والخاصة والمجتمع المدني والأهلي.
.
أولا: تاريخ من الحكمة والتخطيط
تقع الجزيرة أبا لمن لا يعرفها في موقع جغرافي حساس داخل النيل الأبيض، محاطة بالمياه من جميع الجهات، ومع ذلك تمكن الآباء المؤسسون لهذه الجزيرة من وضع مخطط سكني وزراعي متكامل، حينما تم تخصيص المناطق المرتفعة للسكن والمناطق المنخفضة للزراعة، هذا التخطيط الحكيم، الذي استمر حتى سبعينيات القرن الماضي، يتضمن تصريفاً مائياً سلساً جنبها أخطار السيول، ولسوء الحظ، شهدت في العقود الأخيرة إهمالاً كبيراً في نظام الصرف الصحي، فقد كانت هناك منظومة متكاملة للصيانة الدورية ولكن مع مرور الوقت، تآكلت هذه المنظومة تدريجياً، وقد ساهم في ذلك عدة عوامل، منها تغير الأولويات فمع مرور الوقت، تخلت الدولة عن صيانة البنية التحتية وحولت آلياتها ومكاتبها إلى مشاريع أخرى، وكذلك أسهم النمو السكاني المطرد في زيادة الضغط على البنية التحتية القائمة، بالإضافة للتغيرات المناخية وتواتر الأمطار الغزيرة، ونتيجة لهذا الإهمال، لم تعد البنية التحتية لأبا قادرة على تحمل الأمطار الغزيرة والسيول، . فقد غمرت المياه المنازل والمزارع، وتضررت الطرق ، وتسبب خسائر في الارواح الممتلكات.
ثانيا: الحزيرة ابا مكتنزة بالتنوع وانموذج فريد للتعايش والتسامح
فالرحمانية المدينة الام والمخطط السكني بالمفهوم المعاصر، والواقعة في قلب أبا مع بقية القري التاريخية،تجسد مثالاً فريداً في التنوع الاجتماعي والثقافي والتسامح الذي يجمع بين مختلف القبائل .. ففي هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة، تجد مزيجًا رائعًا من قبائل الغرب والوسط النيلي والشمال والشرق، وقبائل جنوب السودان وجبال النوبة، تعيش في تآلف وتصاهر، لتشكل نسيجًا اجتماعيًا متماسكًا، ولهذا التنوع الفريد أسبابه التي منها الموقع الجغرافي الاستراتيجي للجزيرة ابا التي يبلغ طولها زهاء ال 25كيلو وعرض من بضعة امتار الي ذروة العرض يتجاوز الا 4كيلو بالمدينة الرحمانية التي تتوسط ابا وتتناثر حولها قري عتيقة شمالا منها قرية التمرين (قبا)وتصطف جنوب الرحمانية قري ارض الشفا والغار( التحت) ودارالسلام والحلة الجديدة (بودرشوان) وتكسبون وحلة نصر وابوامكوم واركويت والمنارة التي اندمجت مع حلة عبدالرحمن عمر وطيبة واخيرا حلة المقرن فالجزيرة أبا نقطة التقاء فالرحمانيات تعد مركزًا حضريا وتجاريًا مهمًا (السوق الصغير، والسوق القديم، والسوق الجديد)، مما ساهم في جذب التجار والوافدين من مختلف المناطق والقرى والفرقان داخلها وجوارها مناطق جغرافية اجتماعية تاريخية لاتنفصم من الجزيرة ابا من جودة للشوال ، ورغم السياسات المؤدية لتمزيق النسيج الاجتماعي التي اتبعتها الأنظمة الشمولية لإضعاف أواصر الانصهار الاجتماعي في أبا إلأ ان أهلها انتهجوا السياسات الحكيمة فقد اتبعت الإدارة الأهلية ورموز أبا من المجتمع المدني اعيان ومثقفين سياسات حكيمة شجعت على التسامح والتعايش السلمي بين مختلف المكونات الاجتماعيه، وقد أثرى هذا التنوع على المجتمع وقاد إلى ثراء ثقافي كبير، فتداخلت العادات والتقاليد والقيم المختلفة، مما أثرى الحياة الاجتماعية والثقافية في كافة انحا ء ابا فترعرع ابنائها علي أنماط ثقافية مختلفة صارت هجين ثقافي واجتماعي تجسد لقاح لأهل السودان، بتسامح كبير بين مختلف الأديان والأعراق، مما خلق جوًا من الاحترام المتبادل والتعاون، فتجد المسلمين يجمعهم أكبر مسجد في وسط ابا الرحمانية يسمي مسجد الكون، ويفد إلى أسواق أبا المسيحيون من إخوتنا الجنوبيين ويؤمها حتى الذين لا دين لهم، لا يمسهم سوء ولا نصب، وكان هذا التنوع الاجتماعي في أبا مصدرًا للقوة والتماسك ، وفي ظل حالة الانقسام والتشظي الاجتماعي والقطيعة التي كادت أن تعصف بالسودان ووحدة وجدانه ما أحوجنا لنموذج يحتذى به، فمجتمع أبا وحده كافي ليكون أنموذجًا يحتذى به في مجالات التعايش السلمي والتسامح بين مختلف الثقافات والأعراق، فهي قد حققت تنوعا عز أن يوجد مثاله تسعى لتحقيقه أحدث نظريات علم الإجتماع وتجتهد لإيجاده تحت مسميات المدينة الفاضلة (كازبلانكا)، تم تحقيق هذا الانموذج (الاجتماعي في ابا )بكلمة واحدة وهي (كونوا) فكان أهل أبا أنصارا متآلفين.
ثالثا: تكوين الجزيرة أبا نموذجا فريدا للتخطيط العمراني التقليدي
لم يمنع وقوعها في موقع استراتيجي داخل النيل الأبيض، وكونها محاطة بالمياه من كل جانب، ولم يثن مؤسسوها الأوائل مع الإمام عبد الرحمن المهدي طيب الله ثراه من استغلال هذه الميزة التفضيلية الطبييعية إذ برزت في تخطيطهم العمراني، فقاموا بتوزيع القرى والمناطق السكنية على التلال المرتفعة، حفاظًا على السكان من خطر الفيضانات التي كانت تهدد الجزيرة ابا بعد إنشاء خزان جبل أولياء عام 1937 وقتئذ، بينما خصصوا المناطق المنخفضة للزراعة فكان اول مشروع زراعي قام داخل الجزيرة ابا لزراعة القطن هو مشروع طيبة عام 1935 في الاستفادة من المياه، فجعلوا من الرحمانيات قلب الجزيرة النابض، ودرة تاج أبا السكانية، تعتبر الرحمانيات مركز الجزيرة أبا الاجتماعي، حيث تتمركز أغلبية السكان، وقد تم تقسيمها إلى أربعة تجمعات رئيسية: شمال غرب، جنوب غرب، شمال شرق، وجنوب شرق، هذا التقسيم الذكي ساهم في تسهيل عملية تصريف، المياه من كل تجمع إلى القنوات الرئيسية، عبر قنوات تصريف فرعية، بواسطة نظام تصريف طبيعي إنسيابي وفعال، فقد كان نظام التصريف في الجزيرة أبا يعتمد بشكل أساسي على التضاريس الطبيعية، فالمياه كانت تصرف بشكل طبيعي من المناطق المرتفعة إلى المناطق المنخفضة، ثم إلى القنوات الرئيسية التي تصب في النيل، وساهم وجود “السايفون” في شرق الجزيرة ابا في تعزيز كفاءة هذا النظام شرقا وغربا، كما لعبت الترع الداخلية دورًا حيويًا في ري الأراضي الزراعية وتوفير المياه للاستخدامات المنزلية، وكانت الترعة الصغيرة التي تقع شرق المستشفى وغرب المدرستين مثالًا على هذه الترع، حيث كانت توفر المياه لسكان المنطقة، وتمثل غير التصريف شريان حياة بالنسبة لهم، لذلك فإن تكوين الجزيرة أبا يعكس حكمة وتخطيط سكانها الأوائل، الذين استطاعوا بناء مجتمع مزدهر في بيئة قاسية، وقد اعتمد هذا التخطيط على فهم عميق للطبيعة والتضاريس، مما أدى إلى إنشاء نظام تصريف فعال وحماية السكان من أخطار الفيضانات.
رابعا: غرق الجزيرة أبا نتاج الإهمال والتخطيط الفاشل
صنفت الجزيرة ابا في كل الفترات الاستبدادية التي تعاقبت على السودان خاصة النظامين المايوي في 1969و الانقاذي في 1989م أنها بؤرة للمقاومة يجب إخماد نارها أو اجتثاث بذورها من الجذور، لذلك مورست ضد أهلها كل أشكال التمييز والقهر وتعدى الأمر إلىى الإهمال حتي للشجر والمدر والحجر وبلغ مبلغه في غض الطرف عن صيانة البنية التحتية، كما ذكرنا سابقًا، كانت الجزيرة أبا تتمتع بنظام تصريف طبيعي فعال ولكن مع مرور الوقت، تم إهمال صيانة هذا النظام، مما أدى إلى انسداد القنوات وتراكم المياه، والتوسع العمراني العشوائي فقد شهدت الجزيرة توسعًا عمرانيًا سريعًا وغير مخطط له، حيث تم بناء المباني على الأراضي الزراعية والمناطق المنخفضة، مما قلل من قدرة الأرض على امتصاص المياه، وكذلك إعادة التخطيط القسرية فرغم ما ذكرناه من تخطيط محكم منذ تأسيس أبا إلا أن عملية إعادة التخطيط ونزع الأراضي في التسعينيات أدت إلى مواجهة كبيرة بين السكان والسلطات، وتسبب هذا الصراع في تأخير تنفيذ مشاريع البنية التحتية اللازمة لحماية الجزيرة وأقعد كل خطط تطويرها، واستغل بعض الأشخاص ذوي النفوذ هذه العملية لتحقيق مكاسب شخصية، مما أدى إلى إهمال مصالح السكان وتدهور البنية التحتية، ونتج عن هذه الأسباب مجتمعة غرق أجزاء كبيرة من الجزيرة، وتضرر الممتلكات والبنية التحتية، وتشريد العديد من الأسر. كما أدى ذلك إلى تدهور البيئة وتلوث المياه، وعلى الرغم من وجود بدائل مثل “أبا الجديدة” ومخططات سكنية أخرى، إلا أنها لم تحقق النجاح المطلوب، فقد أدى غرق السوق الجديد وتدهور المخططات الجديدة إلى زيادة معاناة السكان، لذلك تعتبر كارثة غرق الجزيرة أبا درسًا قاسيًا في أهمية التخطيط العمراني المستدام والحفاظ على التراث الثقافي. فالإهمال والفساد والتدخلات العشوائية يمكن أن تدمر مجتمعات بأكملها.
ختاما: من هذا التخطيط الآني لمواجهة آثار الخريف في الجزيرة أبا علينا التوجه نحو مستقبل مستدام
نعم! عانت الجزيرة أبا في السنوات الأخيرة من آثار التغيرات المناخية والتخطيط العمراني غير المدروس، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الفيضانات والتصريف، والواجب أن تكون هذه المحنة حافزا لنا لتلفتنا لأهمية التخطيط المستقبلي والوقاية من آثار الخريف، انطلاقا من التحديات الراهنة التي تجلت في تدهور نظام التصريف الذي يعاني من الإهمال والتراكمات، وقلل قدرته على تصريف المياه الزائدة خلال موسم الأمطار، وكذلك التوسع العمراني غير المدروس الذي تسبب في تقليل المساحات الخضراء وزيادة الضغط على البنية التحتية، وفي بعض الأحيان جرف كل المساحات الخضراء والميادين والمتنفسات، وتظل التغيرات المناخية السبب الرئيس في زيادة حدة الأمطار وارتفاع منسوب المياه، مما يزيد من خطر الفيضانات، لذلك علينا أن ننظر لهذه المصيبة بالعين الكلية التي ينظر بها العالم ومحيطنا الإقليمي لهذه الأزمات والتوجه نحو جعل الجزيرة أبا واحدة من المدن المستدامة، وذلك بتجديد الرؤى والأفكار حول مستقبل أبا التي عكف عليها مختصين في السابق وفي مقدمتها دراسة التصريف الحالي وتحديد نقاط الضعف واقتراح الحلول المناسبة، ووضع تصورات فنية متكاملة لحل مشكلة التصريف، تشمل توسيع القنوات، إنشاء الخزانات الأرضية، وزيادة المساحات الخضراء، وإشراك المجتمع المحلي في عملية التخطيط واتخاذ القرارات، لضمان قبول الحلول المقترحة وتنفيذها بفعالية.وتوعية السكان بأهمية الحفاظ على البيئة والحد من التلوث، والتعاون بين الجهات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني لتنفيذ المشاريع اللازمة، وذلك لأن الوقاية خير من العلاج، ما يوجب علينا التخطيط للمستقبل والعمل على تجنب تكرار الكوارث، وعلينا أن نتعلم من الأخطاء السابقة، وأن نستثمر في البنية التحتية، وأن نعتمد على الخبرات العلمية في اتخاذ القرارات، لأن الجزيرة أبا تمثل ماضينا الزاهر وحاضرنا المثمر ونأمل أن تكون مستقبل أبنائنا المزهرفيه تعد تراثًا حضاريًا واقتصاديًا هامًا، واجبنا دفعها نحو التطور وحمايتها من التدهور من خلال التخطيط السليم والتعاون المشترك، يمكننا أن نحافظ على هذه الجزيرة ونضمن مستقبلًا مستدامًا لأجيال قادمة، وتعتبر الجزيرة أبا برحمانياتها وامتداداتها من طيبة إلى قباء نموذجًا فريدًا للتعايش السلمي والتسامح بين مختلف القبائل والأعراق، هذا التنوع الغني هو ثروة وطنية ينبغي الحفاظ عليها وتطويرها، من خلال تمتين أواصر المحبة والتعايش والقيم المشتركة ومكافحة أدواء العنصرية والتمييز، ويمكننا أن نحافظ على هذا النسيج الاجتماعي المتماسك ونجعله مصدر إلهام للأجيال القادمة، ونحقق ما عجزت عنها السياسة والأيدولوجيا.
وأهمس في أذن كل من له صلة بأبا وهلها من العامة والخاصة، من الرسميين والشعبيين، إن كارثة سيول الجزيرة أبا تذكرنا بأهمية الحفاظ على هذا الموروث وهذه البيئة والبنية التحتية، والتخطيط المستقبلي بمسؤولية، وعلينا جميعاً أن نتعلم من هذه التجربة المؤلمة، وأن نعمل معاً لبناء مجتمعات أكثر أماناً واستدامة.
علينا العمل جميعا على حل كل أزمات أبا تباعا والبدء بمصيبة الخريف ومشكلة التصريف الطارئة في الجزيرة أبا، وتوفير الموارد اللازمة لتنفيذ المشاريع الاسعافية المقترحة، ويقيني أنكم قادرون على اتخاذ القرارات الصائبة وحماية هذه الجزيرة الغالية على قلوبنا، وأنكم لن تتأخروا لتلبية ندائها برا بها لأنها أهدت السودان كل شيء وحرمت من كل شيء.
عروة الصادق
orwaalsadig@gmail.com